التاريخ الإسلامي
دون تشويه أو تزوير
التاريخ الإسلامي يمتد منذ بداية الدعوة الإسلامية بعد نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تأسيس الدولة الإسلامية بالمدينة المنورة وحكم الخلفاء الراشدين، مرورًا بالدولة الأموية فالدولة العباسية بما تضمنته من إمارات ودول مثل السلاجقة والغزنوية في وسط آسيا والعراق وفي المغرب الأدارسة والمرابطين ثم الموحدين وأخيرًا في مصر الفاطميين والأيوبيين والمماليك ثم سيطرة الدولة العثمانية التي تعتبر آخر خلافة إسلامية على امتداد رقعة جغرافية واسعة، وهذه البوابة تعنى بتوثيق التاريخ من مصادره الصحيحة، بمنهجية علمية، وعرضه في صورة معاصرة دون تشويه أو تزوير، وتحليل أحداثه وربطها بالواقع، واستخراج السنن التي تسهم في بناء المستقبل.
ملخص المقال
الشيعة ومحاولات اغتيال صلاح الدين الأيوبي، حول تاريخ الحسن بن الصباح وأبرز محاولات الحشاشين التخلص من صلاح الدين، وتصدي صلاح الدين لهم
انقسمت الطائفة الإسماعيلية بعد وفاة الخليفة الفاطمي المستنصر في عام 487هـ/1094م إلى فرقين: النزارية التي اعتقد أتباعها بأحقية ابنه الأكبر نزار بالخلافة، وقد فروا إلى الشرق بعد أن تعرضوا لحملة اضطهاد في مصر وكان على رأسهم الحسن بن الصبّاح الذي أسس في بلاد فارس ما يُعرف بالفرقة النزارية وغلب على اتباعه اسم الحشيشية، أو الباطنية. والفرقة الثانية هي المستعلية، أتباع المستعلي، الابن الثاني للمستنصر. وتعمق الحسن بن الصباح في دراسة العقيدة الإسماعيلية [1].
الحسن بن الصباح
وكان الحسن بن الصباح الحميري قد نشأ بالري في بلاد فارس وتأثر في شبابه بالدعوة الإسماعيلية وزار مصر والتقي بالمستنصر [2] وظل الحسن بن الصباح مقيماً في مصر زهاء ثمانية عشرة شهراً، كان خلالها موضع حفاوة المستنصر، فأمده بالأموال وأمره بأن يدعو الناس على إمامته في بلاد العجم [3].
وكان الحسن ابن الصباح يرى أن تولية نزار تتفق مع التعاليم الإسماعيلية التي تشترط في الإمام أن يكون أبناء أبيه [4].
ولاشك بأن إقامة الحسن بن الصباح في مصر أتاحت له التعُّرف على أحوال الدولة العبيدية الفاطمية، وما آلت إليه الدعوة الإسماعيلية في ظل سيطرة بدر الجمالي، وقد عزم على إقامة الدعوة للمستنصر في فارس وخراسان، وحرص على تكوين مجتمع إسماعيلي صرف[5].
وحين عاد الحسن بن الصباح إلى بلاد فارس بدأ بنشر دعوته إلى نزار رافضاً البيعة للمستعلي معتبراً نفسه نائب للإمام مخططاً لإنشاء دولة إسماعيلية جديدة في المشرق الإسلامي [6] بعد أن رجع إلى فارس وبلغ أصفهان سنة 473هـ وباشر دعوته السرية.
ولما ضيَّق نظام الملك عليه الخناق رحل إلى قزوين واستولى على قلعة "الموت" الحصينة وجعلها مقراً له ولجماعته [7]، فتوسعوا وأكثروا الفساد في البلاد [8]، ولم يكد الحسن الصباح يستولى على قلعة الموت حتى بادر بالاستيلاء على القلاع المجاورة فأطلق دعاته لتحقيق هذا المأرب [9]، ولم يمض وقت طويل حتى كان الصباح قد استولى على المنطقة الواقعة جنوب قزوين برمتها بعد أن سيطر على القلاع المتناثرة في أرجائها، والتي تبلغ نحو الستين قلعة وكانت هذه القلاع تقع في الغالب وسط وديان صالحة للزراعة وبالقرب من موارد ثابتة للمياه، وكانت القلعة تكون وحدة اقتصادية عسكرية مستقلة بذاتها، يعيش أهلها معتمدين على أنفسهم في زراعة الأرض والدفاع عن القلعة وما حولها في مواجهة أي غزو أو اعتداء [10].
حسن الصباح ونهج الاغتيال
واستطاع حسن الصباح في عهد نظام الملك السلجوقي أن يوجه أتباعه الشديديِّ الولاء له لتحقيق أهداف سياسية مناهضة لخصومه وبخاصة الخلافة العباسية السنية فقد تحدّى شرعيتها بالإضافة إلى بعض الأمراء المسلمين من السلاجقة وأهم ما استخدمه من أسلحة هو الاغتيال [11].
وقام اتباع الحسن بن الصباح بسلسلة عمليات اغتيال كان ضحيتها الكثير من رجال الدولة العباسية وأمرائها، فعظم أمرهم، وقويت شوكتهم، وخشيهم الناس، وامتلأوا منهم رعباً، وكان الحسن الصباح وأتباعه من الإسماعيلية الشيعية شديد البغض لأهل السنة.
وتوسعت الحركة الإسماعيلية الباطنية الشيعية وامتلكوا عدة حصون هامة في بلاد الشام، مثل: القدموس والعليقة والكهف ومصياف وغيرها، والواضح أنهم ارتاعوا لزوال الخلافة الفاطمية وانتصار المذهب السني في مصر، وشعروا بالخطر يتهددهم في بلاد الشام، وبخاصة أن نور الدين محمود كان قد قيّد توسعهم على الطرق الشرقي، من أجل ذلك أرسلت القيادة في قلعة الموت في عام 558هـ/1163م رشيد الدين سنان البصري، المعروف بشيخ الجبل ليتولى إقليم النصيرية في بلاد الشام، فتوجه هذا إلى حلب متنكراً بزي الدراويش وبقي فيها عدة أشهر، ثم تنَّقل بين قلاع الحشيشية حتى استقر في مصياف [12].
محاولة الشيعة الإسماعيلية الأولى لاغتيال صلاح الدين
نَقَمَ الشيعة الباطنية (الحشاشون) على صلاح الدين الأيوبي لأنه أسقط الخلافة العبيدية الفاطمية، وتقدم لبلاد الشام لتوحيده، وضَّمه إلى مصر مما يشكل تهديداً لكيانهم، فتعاون راشد الدين مع كل من الصليبيين والزنكيين للقضاء عليه [13].
وراشد الدين، كبير الإسماعيلية وطاغوتهم وهو أبو الحسن سنان بن سلمان بن محمد البصري الباطني، صاحب الدعوة النزارية [14]، كان ذا أدب وفضيلة، ونظر في الفلسفة وأيام الناس وفيه شهامة ودهاء ومكر وغور [15]. وقال عنه الذهبي: وكان سخطة وبلاء متنسكاً متخشعاً واعظاً وكان يجلس على صخرة لا يتحرك منه سوى لسانه، فربطهم وغلوا فيه، واعتقد منهم فيه الإلهية فتباَّ لهم ولجهلهم، فاستغواهم بسحر وسيمياء، وكانت له كتب كثيرة ومطالعة وطالت أيامه [16].
ففي عام 570هـ/1174م عندما توجه صلاح الدين الملك الصالح إسماعيل إلى رشيد الدين، يطلب مساعدته وبذل له أموالاً كثيرة، وعدداً من القرى، ثمناً لقتل صلاح الدين الأيوبي والواضح أن مصلحة مشتركة قد جمعت الطرفين هي العداء لصلاح الدين، أرسل رشيد الدين سنان جماعة من أتباعه الفدائيين إلى المعسكر الأيوبي فاكتشفهم أمير يدعى خمارتكين، فقتلوه، ووصلوا إلى خيمة صلاح الدين في جوف معسكره، وحمل عليه أحدهم ليقتله، فقتل دونه، واستبسل الباقون في الدفاع عن أنفسهم قبل أن يُقتلوا جميعاً.
ومن المستبعد أن يكون تحريض كمشتكين هو الدافع الأساسي والوحيد لرشيد الدين، للقيام بتلك العملية، لأنه كان يعمل لأسباب خاصة به، وهو أن صلاح الدين، منذ أن دخل بلاد الشام، أضحى العدو الرئيسي للحركة، لأنه كان يعمل على توحيد أهل السنة هناك الذي من شأنه أن يهدد كيان حركته [17].
المحاولة الثانية لاغتيال صلاح الدين
لم يتوقف رشيد الدين عن محاولات اغتيال صلاح الدين رغم فشل المحاولة الأولى، بل زاد تصميمه، فأرسل في ذي القعدة عام 571هـ/أيار عام 1176م جماعة من أتباعه يتنكرون في زي الجنود، فدخلوا المعسكر الأيوبي أثناء حصار قلعة عزاز، وباشروا الحرب مع جند صلاح الدين واختلطوا بهم يتحينون الفرصة لقتل صلاح الدين وفيما كان الجند مشغولون بحصار القلعة، مَّر صلاح الدين بخيمة الأمير جادلي الأسدي لتشجيع الجند على مواصلة القتال، فهجم عليه أحد الإسماعيلية وضربه بسكينه على رأسه، إلا أن صلاح الدين كان يلبس خوذته الحديدية فوق رأسه، فعاد الرجل وضربه على خدَّه فجرحه، فأمسكه صلاح الدين بيده وحاول تعطيله وهو مستمر في هجومه وضربه إلى أن أدركه الأمير سيف الدين يازكوج وقتله، ثم هجم فدائي ثاني على صلاح الدين، فتصدى له داوود بن منكلان وقتله، ثم هجم فدائي ثالث لتنفيذ المهمة، فاعترضه الأمير علي أبو الفوارس، وطعنه ناصر الدين محمد بن شيركوه وقتله وخرج رابع من الخيمة هارباً، فطارده الجند وقتلوه [18].
وقد تسبب هذا الحادث المفاجئ في اضطراب صلاح الدين حتى أنه فحص جنوده جميعاً، فمن أنكره أبعده، ومن عرفه أقرَّه، وحرص حرصاً شديداً واتخذ تدابير احترازية صارمة وبالطبع، فقد كان للحادث أثر في نفوس الجند، حتى أنهم توقفوا عن القتال أمام عزاز، وخاصة عندما أشيع أن صلاح الدين قد قُتل، وعلى سبيل الاحتياط الشديد ضرب حول سرادقه برجاً من الخشب. وقد أرسل القاضي الفاضل ليطمئن الملك العادل أخا صلاح الدين فيها على أخيه، ويروي له تفاصيل الحادث الحقيقية [19].
أسلوب صلاح الدين في تأديب الإسماعيلية
أرسل صلاح الدين إلى رشيد الدين سنان يتهدده فرد عليه زعيم الحشاشين بهذه الأبيات:
يـــا للرجــال لأمــر هــالَ مقطعُــهُ *** مـــا مــرَّ قـطُّ علـى سمعـي توقُّعُـهُ
فإذا الذي بقراعِ السيــــف هـدَّدنا *** لا قام مصرع جنبي حين تصرعُـهُ
قـــام الحمَــامُ إلى البـازي يُهـدَّدُهُ *** واستيقظــت لأســود البَـــرَّ أُصبعه
وقفت على تفصيل كتابكم وجُملهِ، وعلمنا ما هدَّدنا به من قوله وعمله، فبالله العَجَبُ من ذبابة تطنُّ في أذُن فيل، وبعوضة تُعَدُ في التماثيل، ولقد قالها من قبلك قوم فدمّرنا عليهم، وما كان لهم من ناصرين، أَلِلْحَقِ تدحصون وللباطل تنصرون؟ وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون، ولئن صدر قولك في قطع رأسي، وقلعِكَ لِقِلاعي من الجبال الرواسي، فتلك أمانيُّ كاذبةٌ، وخيالات غير صائبة، فإن الجواهر لا تزول بالأعراض، كما أنَّ أرواح لا تضمحل بالأمراض، وإن عُدْنا إلى الظاهر وعَدَْنا عن الباطن فلنا في رسول الله أسوةٌ حسنة "ما أوذي نبي ما أوذِيْت " [20]. وقد علمت ما جرى على عنزته وشيعته، فالحال ما حال والأمر ما زال، وقد علمتم ظاهر حالنا، وكيفيَّة رجالنا، وما يتمنوَّنَهُ من الفوت ويتقربون به من حياض الموت، وفي المثل: أو للبطَّ تُهدَّوُ بالشطَّ؟ فهيَّئ للبلايا أسباباً، وتدرَّع للرَّزايا جلباباً، فلأظهرن عليك منك، وتكون كالباحث عن حتفه بظلفه، وما ذلك على الله بعزيز، فكن لأمرنا بالمرصاد وإقرأ أوّل النّحل وآخرص [21].
مواجهات صلاح الدين مع الحشاشين
بعد محاولات الاغتيال الفاشلة أخذ صلاح الدين بالاحتراز الشديد، حتى أنه ضرب حول سرادقه برجاً من الخشب [22]، وكان للحادث أثر بالغ في نفوس الجند الذين اضطربوا وتوقفوا عن القتال أمام عزاز، واضطرب أمر الناس أيضاً، حين شاع في البلاد أن صلاح الدين قد قُتل، فاضطر صلاح الدين، عندئذ إلى الطواف بين جنده ليشاهده الناس، كما أرسل القاضي الفاضل كتاباً إلى الملك العادل، أخي صلاح الدين، يطمئنه فيه ويروي له حقيقة الحادث [23].
وصمم صلاح الدين على أن يضع حداً لهذه الحركة التي وضح خطرها في بلاد الشام، وجهز حملة عسكرية في شهر محرم عام 572هـ/شهر تموز عام 1176م، فحاصر حصونهم ونصب المجانيق الكبار عليها وأوسعهم قتلاً وأسراً وساق أبقارهم وخَّرب ديارهم، وهدم أعمارهم وهتك أستارهم حتى شفع فيهم خاله شهاب الدين محمود تكشى صاحب حماة، وكانوا قد راسلوه في ذلك لأنهم جيرانه، فرحل عنهم وقد انتقم منهم [24]، ودمّر قوتهم [25].
وقد اضطر الحشاشون إلى التفاهم مع صلاح الدين بعد فشل محاولاتهم المتكررة لاغتياله، وعدم قدرتهم على التصدي لقواته، لذلك فضَّلوا وقوفه على الحياد على أن يكون عدواً مباشراً لهم. ومهما يكن من أمر، لم تشر المصادر التاريخية بعد إبرام الصلح، إلى أي احتكاك بين الطرفين وانفرد ابن الأثير برواية تشير إلى تعاونهما عندما طلب صلاح الدين من رشيد الدين سنان قتل ريتشارد قلب الأسد، وكونراد مونتفيرات صاحب صور، ووعده بدفع الأموال مقابل ذلك، لكن سنان خشي أن يتخلص صلاح الدين من أعدائه فيتفرغ للحشيشة ويقضي عليهم، لذلك اكتفى بقتل كونراد وعدل عن قتل ريتشارد [26].
المصدر: علي الصلابي: صلاح الدين الأيوبي، الناشر: دار المعرفة، بيروت – لبنان، الطبعة: الأولى، 1429 هـ - 2008م، ص446- 251.
[1] تاريخ الأيوبيين في مصر وبلاد الشام ص 81.
[2] الخلافة العباسية، فاروق فوزي (2/ 188).
[3] تاريخ الفاطميين د. محمد طقوش ص 392، 393
[4] المصدر نفسه ص 393.
[5] المصدر نفسه ص 393.
[6] الخلافة العباسية (2/ 188).
[7] حركة الحشاشين ص 65، 66.
[8] الجهاد والتجديد في القرن السادس الهجري ص 32.
[9] دولة الإسماعيلية في إيران، محمد السعيد ص 95 ..
[10] دولة السلاجقة ص 129.
[11] المصدر نفسه ص 97.
[12] تاريخ الأيوبيين ص 97.
[13] سير أعلام النبلاء (21/ 183).
[14] المصدر نفسه (21/ 183).
[15] المصدر نفسه (21/ 185).
[16] تاريخ الأيوبيين ص 97.
[17] تاريخ الأيوبيين ص 97.
[18] تاريخ الأيوبيين ص 98.
[19] المصدر نفسه ص 98.
[20] روي بأسانيد ضعيفة من حديث أنس وبريدة وجابر، الجامع الصغير.
[21] أول النحل "أتي أمر الله" وأخر ص "ونتعلمن نبأه بعد حين".
[22] العماد الأصفهاني ص 98 تاريخ الأيوبيين ص 98.
[23] كتاب الروضتين نقلاً عن تاريخ الأيوبيين ص 98.
[24] كتاب الروضتين (2/ 423).
[25] موسوعة تاريخ العرب العصر الأيوبي ص 63.
[26] تاريخ الأيوبيين ص 88.
التعليقات
إرسال تعليقك